رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى المُسْتَفِيقُ مِن سَكْرَتِهِ امْرأً هَزِيل تَحُفُّهُ الظُلَمُ .. تَنْبَعِثُ مِن عَيْنَيْهِ أخْيِلَةٌ، تَتَرَاءَى بِوَمِيضٍ خَافِت، تَتَرَاقَصُ وَيَجِيءُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْض، ثُمَّ تَتَلَاشَى فَكَأنَّهَا لَمْ تَكُنْ .. وَيَخْلُفُهَا لَوْنٌ أحْمَر
فَإذَا حَدَقَتَا عَيْنَيْهِ كَجمْرَتَين تَحْتَرِقان .. ثُمّ تُومِضُ الأخْيِلَةُ البَاهِتَة مَرَّة أُخْرَى وَتُعَادُ الكَرَّة عَلَيْهِ .. وَتَحْتَرِقُ عَيْنَاهُ أشَدَّ مِن سَابِقَتِها
..
رَأَيْتُهُ بَتَألَّمُ يَنْفَتِحُ فَكُّهُ لِيَصْرُخَ فَلَا يُسْعِفهُ صَوْتٌ وَلَا تُعِينُهُ كَلِمَات .. ثُمّ يَنْظُر إلَيّ .. يَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ مِن فَرْطِ ألَمِه يُنَكِّسُ رَأْسَهُ إلَى الأرْضِ .. فَلَا أدْرِي أدَمْعَاتِهِ المُتَهَدِّرَةَ فَوْقَ ظُلُمَاتِهِ دمَاء مِن دِماءِه اسْتَنْزَفَهَا نَدَمُه .. أمْ هِيَ قَطَرَاتُ نَارٍ مُتَسَاقِطَةٍ تُحَرِّقُهُ عَلَّهُ يَسْتَفِيق ..
..
رَفَعَ نَظَرُهُ إلَيّ مُسْتَغِيثًا مَادًّا يَدَهُ فِي وَهَنٍ واضْطِرَاب
انْبَعَثَ دُخَانٌ مِنْه فَكَأنّهُ يَحْتَرِقُ بِلَا ألْسِنَةِ لَهَب .. يَتَوَجَّعُ وَيَتَلَوَّى فَإذَا مَا مَدَدْتُّ يَدِي إلَيْهِ .. فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَه .. فَأحْسَسْتُ كَأنّ الطّرِيقَ بَيْنَنَا مُمْتَدَّةٌ ..
نَادَيْتُه: مَا اسْمُك ..؟!
نَظَر إلَيّ نَظْرَةً اخْتَلَطَتْ مَعانِيهَا عِنْدِي ..وَظَلّ مُحَدِّقًا بِي حَاوَلْتُ الاقْتِرَابَ مِنْهُ .. بِخُطُواتٍ وَجِلَةٍ .. ارْتَبْتُ مِن شِدَّةِ ظُلْمَةِ المَكان .. فَلَوْلَا احْتِرَاقُ عَيْنَيْهِ رُبَّمَا مَا رَأيْتُهُ .. وَمَا اسْتَبانَ لِي كُنْهَهُ ..
وَهَالَنِي مَا رَأيْتُ .. فَإذَا بِكَلَالِيب تَنْشَبُ فِي أشْلَاءِه .. فِي كُلِّ قِطْعَة مِن جَسَدِه الضّعِيف .. تُثْقِلُ حَرَكَتَه وَتَشُدُّهُ إلَى مَا وَراءِه .. تُوثِقُه إلَى المَجْهُول رَمَقَنِي بِنَظْرَةٍ جَمَعَتْ كُلَّ مَعَانِي الاسْتِغَاثَةِ عِنْدِي ..
ثُمَّ لَفَّتْهُ الظُلَمُ .. وَانْحَسَرَ فِيها ..رَكَضْتُ نَحْوَهُ .. وَاقْتَرَبْتُ وَأنَا أرَى تِلكَ السَّلَاسِلُ مُنْغَمِسَةً فِيه إلَى غَيْرِ سَبِيلٍ لِفِكَاكِهَا ..
أوْ انْفِكَاكِهِ مِنْهَا ..
فَمَدَدْتُّ يَدِي إلَي سَاعِدِهِ لِأُسَاعِدَه عَلَى القِيَام ..
فَتَلَاشَى مِن ناظِرِي وَرَفَعَ نَظَرَهُ إلَيّ بِحَسْرَةٍ وَنَدَم ..
ثُمَّ اخْتَفَى ..
وَبَقِيَتْ نَظْرَتُهُ خَالِدَة .. مُتَشَبِّثَة بِي
..
وَتَذَكَّرْتُ وَجْهَهُ .. وَقَد كَانَ مَألُوفًا عِنْدِي ..
وَمَا إنْ اسْتَفَقْتُ حَتّى تَذَكَّرْتُهُ ..
فَإذَا بِهِ أنَا فِي زَمَنٍ غَرِيب.
تعليقات
إرسال تعليق