الحياة اضطراب وتقلبات لا دوام لحال دون حال، بل تتداخل المحاب مع ما يكره المرء لتكوِّن لدى المرء قناعة ضرورة اللجوء إلى الاتزان النفسي -الذي إلى الآن نعمى عنه- وضرورة الالتجاء إلى ركن شديد نجد أنفسنا فيه ساعة القوة والضعف، ولا نُخذَل..
أكثر ما يعترض قلوب البشر الآن، البحث عن هذا الجانب في القلب الذي يجد أمانه فيه، ذلك الركن الذي يلجأ إليه ساعة الضعف ليربتّ عليه ويطمئنه :"لا تخف؛ أنا معك"، ومتاهات الحياة كثيرة متشعبة تُضِل السالك بغير دليل، وتُغوِي صاحب الدليل وتأتي عليه وتُدخِله في متاهات لا قبل له بها.. ولذا كان البحث عن ذلك الجانب من القلب أمرا ضروريا وحاجة مُلحّة عند أغلب الناس وإن لم يُصرِّح بها الكثير أو أعلن حاجته لذلك الأمان، فلا أحد يهوى التشتت لكنه قد لا يجد ملجئا لروحه يؤويها عند لحظات التردي والوهن.
خطورة ذلك الأمر، أن سوء الاختيار له عواقب وخيمة، قد تضر بالروح وتطوي ما فيها من انتشاء للجمال وبحث عن الترقي في معالي الأمور ويُحيلها إلى النفس وانغماسها إلى الأرض، كما أن الرضا بأي أمر يمر على المرء، ليس بالأمر الصائب.. بل لا بد أن يكون للمرء موازنات تحتاجها نفسه فيمن يحق له أن يجد فيه تلك اللمسة التي يفتقدها..
قد يقول قائل: "ما بال الأقرباء، والأحبة والأصدقاء.. ألا يدخلون تحت ذلك الأمر؟" في الحقيقة أن كلهم قد يكون لهم نفس التأثير، بل رُبّ واحد من أي جهة كان يُعطِي النفس ذلك المقدار الذي تحتاجه -لفترة معينة- ويكون المرء في غنى عن غيره من أشخاص أو جماعات يجد نفسه بينهم.. قد يكون له صديق هو الدنيا فيما يُعطِيه ويربتّ على قلبه، قد يكون له أب أو أم أو أخ أو أخت، يعرفون ما يريد قبل أن يفكر ويساعدوه في تقويم ذاته بما تحتاج إليه، ولكن ربما لأمر الاعتياد وَدّ لو يجد جانبا آخر يُكمِل ما فيه نقص ويرى ما فيه من سوء ولا يصد عنه، بل يجد ناصحًا له خائفًا عليه -وفوق ذلك- محبًا له بكل جوانبه..
فيلتجئ البعض إلى البحث عن ذلك الشخص.. والبعض يبحث عن صديق.. وتستمر مرحلة البحث..
لستُ منكرا لحاجة الإنسان إلى أن يجد نفسه في عينَي آخر، وأهمية إعجاب ذلك الشخص بقليله.. فقط أن يدور فلك روحك عليه أو فلك روحه عليك.. ويجد حينها المرء في نفسه كأنما حيزَت له الدنيا.. لكن ما أنكره أن يكون كلك عليه متصلًا به، يستمد جميع قواه منه بل أقوى مصادر قوتك هي منه، إن قطعها عنك تجد بؤسك وشقاءك يُحيطك من جميع جهاتك.. والضعف ملازمًا لك..
قيل: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا يوما عسى أن يكون حبيبك يوما ما"، المقصد هنا عملية التحول التي قد تصيب الأشخاص وأمور ربما تتبدل وتتغير.. وذلك ليس شيئا مستغربا فتلك طبيعة البشر متقلبة أفئدتهم وعلى التعود تتحول النفس الصالحة إلى طالحة أو العكس.. بل إن الحبيب صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، ثبته على الحق.. فلسنا نلوم أحدا على تغيره فذلك -من المفترض- أمر طبيعي ومتوقع، وربما لم يجد شخص عندنا ما يرجوه أو نجد نحن عنده ما نرجوه فليس من الطبيعي أن يولي أحدنا قلبه شطر أحد بالكلية بل يضع احتمالية أن يحدث ما لا نرجوه وتتغير الأمور.. أو ربما تكون أحزاننا ثقلا عليه فلا يستطيع أن يشاركنا حملها كما لم نستطع نحن..
لذلك كان لزاما على من يريد هناء قلبه ألا يغتر باضطرابات قلبه وانفعالاته وانجذابه ناحية أحد ما، بل يؤمن بأن ذلك شيئا مطلوبا لكنه لا يكون بالكلية تماما ناحية هذا المرء حتى وإن كان هو المنشود.. لأن عامل النقص موجود لدى البشر وليس ذلك ذما بل هو من طبيعة خلقتهم فلا يملك أحد لك حياة قلبك كلها ولا موته كله بل هناك نقص يعتريك ويعتريه، ومنه لا يجب أن تعطي كل ما ينبض به قلبك بالكلية لشخص ما.. وكن حذرا فهو أيضا يرجو هناء قلبه وقد لا يجد عندك ما يريد.. فهجرته قد تكون حياةً له، كما أن بقاءه بجانبك حياة لك..
لكن مما تقرر عندي أن لا أحد -أيا كان- يملك لك تلك الحياة وهذا الهناء.. لا أحد، فهم مساكين يعتريهم النقص ويبحث أحدهم عمن يقوم روحه ويطبب قلبه من أسقام الخذلان، ويحتاجون مَن يربت عليهم.. فلا أظن أنك ستجد ضالتك عندهم، ولكن سيكون البعض منهم عامل من عوامل قوتك اللحظية، وليسوا من عوامل القوة الأساسية، لكن وجودهم حتما يسندك ويمدك ببعض الأمان الذي تتزود به على طول سفرك..
إن كان كل هؤلاء ليسوا من عوامل القوة الأساسية، فمن العامل الأساسي للقوة للمرء؟
الله، الرب سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله لوطا كان يؤوي إلى ركن شديد" يعني الله تبارك وتعالى، نعم.. هو ذلك الركن الشديد الذي ما إن نحيد عنه نجد صوارف وتقلبات وأهواء تشدك إليها لتبعدك عنه -سبحانه-..
القرب من الله والالتجاء إلى جنابه هو ذلك الأمان الذي إن فقده الإنسان ضاع في متاهات الدنيا، الله سبحانه وتعالى هو ذلك الركن الشديد الذي يرجو المرء منه القوة من بعد الضعف والنصر من بعد الهزيمة والوصول بعد الضلال..
الله الذي التوكل عليه عين الحق، والاتكال إلى النفس عين الخزي ألمْ يُقَل في الدعاء "اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين" اللهم آمين، من وجد الله فلا فقد..، ستعلم أن مدار تلك الحياة مقام على طاعتك له والخضوع بين يديه والمحبة والشوق إليه.. وما دونه موصلات إليه أو ملهيات عنه.. فمن اتصل به حُقَّ لك أن تصاحبه وتعاشره لأنه يتصل بالله سبحانه وليس في الاتصال لشخصه، ومن تاه عنه حُقَّ لك أن تبحث عن سلامة قلبك بعيدًا عنه وتشده معك إلى الله ما استطعتَ إلى ذلك سبيلا..
الله هو الأمان، الله هو الحقيقة التي يتعبد العباد ويتزهد الزهاد عن دنيا الأنام للوصول لها، الله تجده في قلوب العلماء بالخشية عندما عرفوا الله، الله هو الحقيقة التي دونها لا يوجد حقائق.. فحري بك أن تيمم قلبك ناحية مرضاته وتوقف قلبك عن معاصيه وتتصل به حتى تصل.. ودع عنك زيف الشخوص والأحباب والتجئ إلى مليكك ومولاك.. ستجد الأنس بعد الوحشة والأمان بعد الخوف والمحبة بعد فقد الأحباب..
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف